أوقفت سيارتي في الساحة المقابلة للمبنى، هذه الساحة الممتدة من الأسفلت، لا بد أنها تستوعب عدداً من المركبات يعادل مدينة صغيرة. الساعة السابعة والنصف، لم يتجاوز عدد السيارات المركونة عشر سيارات، لابد أنني وصلت مبكرًا كطالب نجيب جلس في الصف الأمامي يتوقع أن يحصل على نجمة ذهبية في أول يوم. ولكن على الأقل، أزحت عن كاهلي المهمة الأولى ضمن قائمة مهامي لليوم .. الحضور مبكراً، تم!

نظرت في المرآة نظرة أخيرة لأتأكد من أن شماغي ما يزال في مكانه بالشكل الصحيح. أغلقت سيارتي، وقطعت المسافة التي تفصل بيني وبين المبنى، أشعر بنسيم الهواء البارد قليلاً. مبنى المنظمة الشاهق يقف أمامي شامخاً، ومع كل خطوة نحوه تزداد هيبته وتزداد رهبتي.

تذكرت حديثًا مع صديقي المعماري المغرم بالتفاصيل، كان قد أخبرني، بنبرة من التقدير، أن هذا المبنى كان من ضمن الحالات الدراسية التي مرت عليه أثناء دراسته في شيكاغو. وقد شاركني رواية، لا أعلم مدى صحتها، أن الشركة العالمية التي نفذت المشروع، سلمت مؤسس المنظمة ملفين ضخمين، كل منهما مليء بالتفاصيل المالية. توقعوا أنه سيتصفحها بجدية، وربما يحتفظ بها كمرجع تاريخي. إلا أنه فاجأهم عندما نظر ألقى عليها نظرة سريعة وألقى بها في سلة المهملات وقال لهم "أحضروا لي صفحة واحدة فقط تحتوي على الرقم الذي تريدونه!".

سواء كانت هذه القصة صحيحة أم لا، فإنها تقول الكثير عن هذا المكان. لكن في هذه اللحظة، حيث أبدأ فصلاً جديداً من حياتي، كل ما أتمناه هو أن لا يقتصر على صفحة واحدة فقط!

اليوم الأول في وظيفة جديدة يشبه كثيراً الخروج في موعد غرامي مع امرأة جميلة لأول مرة. كل شيء يعتمد على قدرتك على الظهور بمظهر الهادئ والواثق والمهني، حتى لو كنت من الداخل تعج بخليط من المشاعر .. الحماس، القلق، والرغبة الجامحة في إثبات نفسك، كل ذلك تحت الأضواء المسلطة عليك وحدك، وكأن العالم بأسره يراقبك، يقيم كل كلمة وكل حركة.

جميع الشخصيات التي بداخلك تبدأ بالتدافع .. المهرج، القلق، المتحمس، الفيلسوف، والمتهور الجامح، الجميع يريد أن يتوسط المسرح. تنظر إليهم جميعًا بحدة وتصرخ "أنت، أنت، وأنت! يمكنكم الخروج اليوم. أما البقية، لا أريد أن أراكم اليوم أو أسمع أصواتكم! ستخرجون، ولكن ليس الآن .. ليس اليوم!"

إذا سمحت لفوضى هذه الشخصيات أن تتسرب، سأجد نفسي غارقًا في بحر من الأسئلة الغريبة والمواقف المحرجة. لكن إذا استطعت أن أكبح جماح هذه الجوقة، فقد أتمكن من الخروج سالمًا، وربما حتى منتصرًا، من هذا اليوم.

عندما دخلت، استقبلتني مجموعة من الوجوه، كل منها يحمل ابتسامة رسمية تخفي وراءها لجنة مكرسة لتشريح وتقييم الشخص الجديد.

كان هناك سلسلة من الاجتماعات الترحيبية، بحر من الأسماء والوجوه، بعضها مبتسم، بعضها متجهم، وبعضها يختفي خلف قناع من اللامبالاة. أُجبرت على تناول القهوة، الشاي، العصير، الماء، حتى أصبحت بطني مثل قربة منفوخة. وما أن انتصف اليوم حتى شعرت بحاجتي لدخول دورة المياه.

آه، دورة المياه، المكان الذي يتساوى فيه الجميع في الأداء، من الرئيس التنفيذي إلى أصغر متدرب. ولكن، لم أكن مستعداً للشيء الذي رأيته بالداخل. لا شيء يكشف عن تفاصيل خفية في المنظمة مثل دورة المياه!

سألت عن الاتجاهات، فقام عامل النظافة بمرافقتي بلطف إلى المرفق، مشيرًا إليه بحركة احترافية قبل أن يختفي في الظلال. في الداخل، كان المكان نظيفًا بشكل مفاجئ، الأحواض تلمع، المرايا تتألق، والهواء مليء برائحة المنظفات القوية.

عندما انعطفت يميناً باتجاه المراحيض، وقعت عيناي مباشرة على ملصق معلق على الجدار أمامي في نهاية الممر.

الملصق يظهر شخصًا يجلس القرفصاء على كرسي مرحاض إفرنجي، وكأنه في حمام شرقي، مع علامة خطأ حمراء عملاقة في زاوية الملصق اليمنى. أما الجانب الآخر من الملصق، فكان شخص يجلس بالطريقة "الصحيحة" على الكرسي الافرنجي، مع علامة صح خضراء في الزاوية اليسرى. ملصق وكأنه أخذ من ملخص مادة آداب المرحاض ١٠١.

لم أتمالك نفسي من الضحك، يا له من عالم عجيب! ها أنا هنا، في هذا المبنى ذي الطراز الحديث والأرضيات الرخامية المشققة، والمكاتب المجهزة بأحدث التقنيات، ومع كل ذلك، لم يستطع هذا المكان أن يحول بين الإنسان وعاداته الخرائية!

هذا الملصق، البسيط في تصميمه، الغريب في محتواه، لم يكن مجرد ملصق. كان نافذة صغيرة تطل على النسيج المعقد لهذه المنظمة. في منظمة بهذا الحجم والتنوع، يلتقي الناس من مختلف الأطياف والطبقات الاجتماعية، يأتون بمزيج من ثقافاتهم وخلفياتهم، ليتعايشوا تحت سقف واحد.

قد يكون هذا التعايش هادئًا في الظاهر، لكن ذلك الملصق يحمل في طياته صراعًا خفيًا بين جيل قديم متمسك بعاداته وتقاليده، وجيل جديد يسعى لتغيير كل شيء. حرب ضروس بين الحزب اليميني المتطرف، واليساريين التقدميين .. الجميع يصارع من أجل الجلوس على الكرسي، إلا أنها المرة الأولى التي يمون فيها الصراع على كرسي المرحاض!

أصابني هذا الملصق بالاشمئزاز، توقعت عند دخولي لأحد المراحيض أن أجد كرسي الحمام مليئًا بآثار الأقدام أو الأحذية، خدوش من آثار الاحتكاك على حلقة المرحاض. لكنني فوجئت بنظافة المقاعد، لابد أن هذا الملصق كان بمثابة تحذير أو تذكار بعادة قديمة ماتت تدريجيًا، لكنه بقي كرسالة توعوية لأولئك الجدد في المنظمة.

وقفت هناك للحظة، أحدق في ذلك الملصق، وجدت نفسي أتعاطف مع الروح المسكينة التي وضعته. هل كانت هناك محاولات سابقة عبر الخطابات الرسمية، رسائل البريد الإلكتروني، أو قام بعرض تقديمي بوربوينت مع رسومات توضيحية مفصلة قبل أن يلجأ أخيرًا إلى هذا الحل البصري اليائس؟

أو ربما كان هذا الملصق آخر صرخة إحباط أطلقها قبل أن يستسلم ويترك هذه المنظمة للأبد. أو لعلها كانت رسالته الأخيرة التي تركها للعالم قبل أن يشنق نفسه فوق ذلك الكرسي!

في تلك اللحظة، أدركت أن هذا المكتب سيكون مليئًا بالمفاجآت. شعرت أنني على أعتاب اكتشاف قصص جديدة، ويبدو أن هذا الملصق ليس سوى بداية المغامرة.

لو كان صاحب الملصق أمامي في تلك اللحظة، ربما كنت سأقبل رأسه من شدة الامتنان. هذا الملصق الذي كان من المفترض أن يزيد من توتري، أصبح مصدر اطمئنان، وتبددت الرهبة التي كنت أشعر بها من هذا المكان. وسبب آخر، أن هذا الملصق كان مفتاحًا للصداقة المفاجئة التي جمعتني بإسماعيل، شريكي المستقبلي في الجرائم المكتبية.

بعد تلك الزيارة المستنيرة للحمام، قررت أن الوقت قد حان لتحرير بقية الشخصيات التي كانت محتجزة داخلي بداية اليوم. قلت في نفسي "آنَ لأبي عبدالله أن يمد رجليه!"

شارك هذا المنشور