في كل منظمة، يوجد ذلك الموظف الداهية الذي أصبح جزءاً من نسيجها. من خلال السنوات التي أمضاها في تلك المنظمة، وخبرته المتراكمة في قراءة زملاء العمل والمدراء، أصبح لديه القدرة الكافية لتكوين أفكاره وآرائه الخاصة حول ما يجري خلف الكواليس.
إسماعيل ليس شخصاً قديماً في المنظمة فحسب، بل أصبح موسوعة، تمشي على قدمين مملوءة بالقصص والعِبر، اكتسبها بينما كان يشاهد رقاب الموظفين تتطاير في سماء المكتب مع كل مشروع إعادة هيكلة، والتي كانت تمر بها المنظمة كل ستة أشهر.
لدى إسماعيل مجموعة ضخمة من النظريات المتشائمة، لدرجة أنه يمكن أن يفتح بها متحفًا للسيناريوهات السوداوية. بالنسبة للموظفين الجدد، تبدو هذه النظريات مجرد ثرثرة فارغة وتكهنات يائسة، بارك الله في قلوبهم الطاهرة التي لم تلوثها هذه المنظمة بعد.
في أحد الأيام، بعد أن انتهى "الحفل العظيم" لتكريم مجموعة من الموظفين "الاستثنائيين"، وكان الجميع يترنح من شدة الفرح، وكأنهم شربوا جرعة زائدة من الفخر الوظيفي. وبعد أن هدأ صخب التصفيق والابتسامات المجمدة على الوجوه، وجدتني أتحرك بخفة نحو مكتبه.
كنت متشوقًا لسماع تعليقاته كطفل ينتظر بفارغ الصبر قصة ما قبل النوم. لكن إسماعيل، بأسلوبه المعتاد في كسر التوقعات، رفع حاجبه وسألني بنبرة محملة بما يشبه السخرية المبطنة "عن أي تكريم تتحدث؟ أتدري ماذا يعني أن تُكَرَّم؟". أجبته بابتسامة "أليس التكريم اعترافًا بجهودي؟ دليل على أنني أحرزت شيئًا يستحق التقدير".
لطالما كان إسماعيل قادرًا على تحويل كل ابتهاج مؤسسي إلى درس ساخر مليء بالمرارة. وكعادته في قلب الأمور رأساً على عقب، قال "قد يكون ذلك هو الظاهر من التكريم، ولكن باطن الأمر يختلف تمامًا".
عندما رأى الحيرة في وجهي، رمقني بتلك النظرة التي تتساءل إن كنت قد تعلمت شيئاً خلال كل هذه السنوات. أخرج من درج مكتبه عبوة كريم زرقاء، ووضعها على المكتب أمامي كمن يقدم دليلاً مادياً في محكمة.
"حتى لا يختلط عليك الأمر"، قال بلهجة مليئة بالسخرية، "عندما تقرر المنظمة تكريم شخص ما، تبدأ بدهنه بهذا الكريم حتى يسهل عليها التخلص منه .. تكريمك، قد يكون هو الخطوة الأولى نحو إخراجك من المشهد".
أضحكتني حركته الدرامية، لم أستطع أن أتمالك نفسي، فقلت له بسخرية "أشعر أحيانًا أنك مصاب بمتلازمة التحليل الجنوني"
تابع بابتسامة ماكرة، وكأني لم أقل شيئاً "لا تغتر بعبارات المديح وكلمات الثناء المنمَّقة، فهي ليست سوى مواد تساعد على عملية الانزلاق". ثم أشار إلى الدرع التذكاري الموجود على المكعب المكتبي الذي بجانبه، وقال بسخرية لاذعة "ولا تنس الدرع الخاص، المُزيَّن بالأبيات الشعرية والتواقيع الغامضة .. مُزَلِّق بطعم الفواكه الاستوائية!".
"هذا هو التكريم يا عزيزي أحمد!" قالها بلهجة تجمع بين الجد والمزاح، وكأنه يمنحني درسًا جديدًا في فنون البقاء داخل المنظمة.
"إسماعيل، لماذا تحب إقحام نظريات المؤامرات في كل شيء؟" قلت له بسخرية، كأني أحاول فهم هذا الهوس.
"أبو خالد"، قال إسماعيل، وعيناه تلمعان بذكرى قديمة "إذا ضاق ذرعاً بأحد الموظفين الكسالى، وأراد التخلص منه دون إثارة أي فوضى، يلجأ إلى حيلة التكريم لتمرير هذا الموظف إلى إدارات أخرى، كما لو كان يقدم لهم هدية مغلفة بعناية".
ثم تابع بابتسامة ماكرة "تغليف جميل يحوي داخله تفاحة نتنة! لا يكتشفها صاحب الإدارة الجديدة إلا بعد أن تنتهي جميع الأوراق الرسمية الخاصة بانتقال الموظف، وعندها يكون الأوان قد فات، ويجد المدير الجديد نفسه عالقًا مع موظف لا يمكنه التخلص منه بسهولة".
سكت قليلاً، وكأنه يستعيد تلك اللحظات في ذهنه، قبل أن يضيف بابتسامة واسعة وصوته يهتز من الضحك "باكيجنغ... هكذا يسميها أبو خالد".
لم أكن مقتنعًا تمامًا بما كان يقول "إسماعيل أنت كتلة من التشاؤم! الحالة التي تتحدث عنها استثنائية. هناك من يُكرمون لأنهم يستحقون ذلك فعلاً. التكريم ليس دائمًا مقدمة للخروج، الكثير يستمرون في صعود السلم الوظيفي بعد التكريم".
كان يعرف أنني لن أقتنع بسهولة بنظرياته، لكنه كان يستمتع بمشاركتي إياها على أي حال، وكأن مجرد زرع بذور الشك في الشخص الذي أمامه يكفيه.
"يصعب عليّ أن أرى الأمور بغير هذا المنظور" قال إسماعيل بنبرة أكثر جدية هذه المرة "لا أستطيع أن أمنع نفسي من ذلك. هذا ما يمكن أن تفعله بك هذه المنظمة بعد أن تمضي فيها أكثر من اثني عشر عاماً. قد تكون محظوظًا، وتنجو من هذه المنظمة بروح سليمة، لكنني لست من أولئك المحظوظين".
"أفهم ما تقوله، إسماعيل" محاولاً بث بعض التفاؤل "لكن يجب ألا ندع هذه التجارب تتحكم في نظرتنا لكل شيء. هناك دائمًا مجال للتغيير، أليس كذلك؟"
"أحمد، لست مستعداً لسماع هذا الهراء! كل ما أقوله هو أن التكريم في هذه المنظمة يمكن أن يكون وسيلة لتقول لك وداعاً. كلامي لا يعني أنه لا يوجد تكريم فعلي للموظف الجاد. كلٌ منّا يعرف نفسه وجهده، وهل يستحق التكريم أم لا. فإذا كنت بالفعل تستحقه، فهذا أمر جيد، ولا بأس في ذلك".
"حتى عندما يكون التكريم طبيعياً في صالحك، يجب أن تحذر، لأنك حينها ستكون تحت المجهر، والأعين جميعها ستكون مسلطة عليك" قالها بصوت الناصح "عندما تُكَرَّم، لا تدع الفخر يعميك. وزّع ذلك التكريم على الجميع من حولك، سواء كانوا يعملون بجد، أو لا يفعلون شيئاً إطلاقا. نمّق كلماتك، وأغدقها على الجميع بلا استثناء. والأهم من ذلك، بالغ في التواضع لأقصى حد! اجعلهم يشعرون أن التكريم ليس لك، بل للفريق بأكمله".
وقبل أن أتفوه بأي كلمة، قرأ إسماعيل ما كان يجول في ذهني، فواصل حديثه "نعم، الجميع يعلم أنها مجرد مجاملات وأنك، في تلك اللحظات، تنطق بالهراء. لن يصدقك أحد سوى الأغبياء، ولكن رغم ذلك، فإن هذا الخيار أفضل لك بكثير من أن تصاب بداء الكبرياء".
ثم مال قليلاً إلى الأمام، وقال "انظر إلى ذلك الطفل المدعو رعد .. غبي! لم يفهم اللعبة، مشى في الطابق كطاووس، ووضع هدفاً كبيراً على ظهره. ولكن، ما الذي جناه؟ أثار الأحقاد والضغائن في نفوس زملائه، فأغرقوه بالمكائد حتى لم يعد يعرف كيف يحمي مؤخرته من الكمائن التي نصبوها له".
ثم أضاف بنبرة محذرة "لن يكون لديك وقت تهدره في حماية نفسك من قطيع الضباع هذا. في هذه المنظمة، الأعداء الحقيقيون هم من يجلسون على المكاتب المجاورة، وليس من يجلسون في الطوابق العليا".
"هل هذه نظرية مؤامرة جديدة؟" قلت له، محاولًا الاحتفاظ بنبرة المزاح.
نظر إليّ إسماعيل بجدية، وقال "أحمد، إذا كنت تحب التفاؤل والمرح، هناك الكثير في هذا الطابق يمكنك التحدث معهم .. لماذا تأتي إلى مكتبي؟ أنتم تعرفون طبعي، ومع ذلك، تجتمعون حولي وتحبون هذه الروايات".
وبشيء من الحزن قال "هذه تسليتي الوحيدة في هذا المكان. نعم، قد تكون نظريات مجنونة، قد أتفوه بالكثير من الهراء، ولكن هذه طريقتي في التعايش مع الواقع. هكذا أعالج نفسي .. هكذا أعالجكم!".
سكت قليلاً، ثم دفع الأرض برجليه ليرجع بكرسيه إلى الوراء. وقف ولبس نعليه، ورمى بشماغه على كتفه، واكتفى بإشارة وداع بيده دون أن ينطق بكلمة أخرى.
هكذا هو إسماعيل. تذهب إليه في لحظة سلام، فيرمي بين يديك قنبلة من الحقائق القاسية، ثم يتركك وحدك لتفكر كيف تبطل مفعولها، أو تتعامل مع شظاياها .. تباً لك يا إسماعيل!