كان يوماً رتيباً، كأي يوم آخر في المكتب، الوقت يمضي ببطء شديد وكأنه حلزون مكسور القدمين في ماراثون. كانت الهواتف تمارس هوايتها المفضلة، تصرخ بلا هوادة، تستجدي يداً ترفع سماعتها. الثرثرة المتواصلة بين الزملاء ينقصها صوت موسيقى الجاز لترفع من مستوى اللامبالاة، ويتحول المكتب إلى مقهى.
بالرغم من كل هذه الضوضاء، إلا أن صوت أزيز أنوار الفلورسنت ثابت، لا يقطعه إلا صوت هذه الشمطاء في المكعب الذي خلفي. هذه التي نصبت نفسها ملكة مكاتب السيدات، تتغنج على الهاتف مع أحد مدراء الفروع، ومع كل ضحكة سوقية تصدرها، أشعر وكأنها ذبابة تحوم حول رأسي لم تجد هدفًا أفضل للإزعاج. في كل مرة تفتح فمها بهذه الضحكة، أشعر برغبة عارمة في الوصول إلى أقرب مضرب ذباب، وصفعها على وجهها!
طلبت مراراً من مديري، بل توسلت إليه أن ينقلني بعيداً عن هذا المكتب الملاصق لمكاتب السيدات. نظر إليَّ وقال "كما ترى يا أحمد، الطابق ممتلئ كعلبة ساردين مضغوطة، حتى الهواء لا يجد مكانًا ليمر فيه. صحيح، هناك مكتبان شاغران، لكنها تخص إدارة أبي زياد، وليسا ضمن صلاحيتي".
عندما تسمع ذلك، قد تظن أن أبا زياد كان من اللوردات، وأن تلك المكاتب كانت إقطاعيته الشخصية التي ورثها عن أسلافه النبلاء. والحقيقة أن أبا زياد ليس أكثر من مدير متوسط المستوى، ومع ذلك رئيسي تحدث عنه وكأنه سليمان القانوني، يحكم حجرات الحرملك بقبضة من حديد.
كنت على وشك أن أحتج، لكن مديري قطع علي الطريق، ولوح يده في الهواء رافضاً "إذا كنت تُلِّمِحْ أن أطلب منه المكتب، فأقول لك من الآن، لن أفعل!. إنه يهودي يا أحمد، هل تعرف ماذا يعني يهودي؟! يعني أنه سيطلب فوائد على خدماته كما لو كان يدير بنكًا شخصيًا! إذا طلبت منه خدمة صغيرة مثل هذا المكتب، فلن يمر وقت طويل حتى يبدأ بالضغط عليّ كي أنقل ابن أخته المعتوه من الأرشيف إلى فريقنا. هل سأفعل ذلك لمجرد أنك لا تستطيع أن تبتلع لسانك وتغلق عليه؟! لا لن أفعل!"
هذا هو أبو عبدالعزيز، مُديرِي العزيز، طيب القلب بلا جدال، لكنه أيضًا حريص على مصلحته الخاصة بحذر يشبه سيره على حبل مشدود فوق هاوية. إذا كان أبو زياد يهوديًا يتفنن في طلب الفائدة على أي خدمة يقدمها، فإن أبا عبدالعزيز اليهودي من نوع آخر، بخيل في صرف عملاته الاجتماعية. حتى عندما يتعلق الأمر بموظفيه، الذين يعتمد عليهم في كل خطوة. تجده يحسب ويقيس كل خدمة وكأنها ستكون صفقة عمره، ويرفض أن يتحمل أي جميلة قد تُخصم من رصيده الخاص، مهما كانت صغيرة.
استجمعتُ كل ما لديّ من صبر، حتى لا انفجر غاضباً في وجهه، ثم بجدية لم أكن أعلم أنني أملكها، قلت له "إذاً، يا هارون الرشيد، عندما تأتيك إحدى الجواري تشتكي من صوتي العالي وبذاءة لساني، لا ترسل لي مساعدك الشخصي خالد ليطلب منّي أن أضبط أعصابي. بعض موظفين الفروع قِمامَة! ولن أعلمك كيف تتعامل معهم، فأنت أستاذ في هذا المجال بلا منازع! أنهم يدفعونني نحو الجنون فلا يسعني إلا أن أَصْفِقَ سماعة الهاتف على الجهاز، وتنفجر الشتائم البذيئة رغماً عني!. أنا بشر لديّ حدود، فلا تطلب مني أن أتمالك أعصابي يا أبا عبدالعزيز، لأنني على حافة الانهيار!"
ضحك أبو عبدالعزيز بصوت مرتفع، وكأنني قد رويت له نكتة طريفة، ثم قال "هدئ من روعك يا أحمد"، وبعد لحظة من الصمت، مال نحوي بنبرة فضولية وسأل "بالمناسبة، عن أي مستوى من الشتائم نتحدث هنا؟ في آخر شكوى السيدات رفضن أن يفصحن عن الكلمات التي خرجت منك". ثم عدّل من جلسته وكأنه يستعد لمناقشة أمر في غاية الأهمية، وقال "اسمع يا أحمد، لن أنتظر حتى تردني شكوى من شؤون الموظفين. ذلك الملعون المدعو وائل، يقف كشوكة في حلقي كلما طلبت زيادة موظفي الفروع. لن أسمح لك أن تضعني في موقف محرج معه! أريد أن أعرف، عن أي مستوى نتحدث؟".
كنت على وشك أن أراوغ في إجابتي كما أفعل عادةً، لكنني وصلت إلى الحد الأقصى من التحمل. لم أعد أرغب في التحفظ أو اللعب بالألفاظ هذه المرة. نظرت في عينيه مباشرة، ولمحت تلك الفرصة النادرة للتنفيس عن غضبي، وقررت ألا أتركها تفلت من يدي. تقدمت نحو مكتبه ببطء محسوب، وضعت يدي على سطح المكتب، وانحنيت قليلاً إلى الأمام، جاعلاً المشهد أكثر درامية، كأنني بطل في مشهد ذروة من فيلم. كنت على استعداد لتفجير كل ما في داخلي من غضب وتحدٍ، وأعطيت لنفسي الإذن بالبوح بما كنت أكتمه لفترة طويلة.
ترددت قليلاً، لكنني سرعان ما استجمعت كل ذرة قوة في داخلي. وبكل هدوء، قلت له "*ُ*ُّ أُمّك!" حبّرتها شفتاي له تحبيراً، كما لو كنت أزينها بخط منمق على ورق فاخر! ودون أي كلمة أخرى أوليته ظهري، وسرت نحو الباب، وغادرت مكتبه تاركاً الباب يغلق من ورائي بهدوء.
لم ألتفت لأرى تعابير وجهه، لكنني كنت متأكدًا من أني تركته غارقاً في حيرته، يتساءل بعصبية، هل كنت فعلاً أجيب عن سؤاله بصدق … أم أنني أضفته تواً إلى قائمة حثالة الفروع!