في المطبخ الصغير حيث لا يدخل أحد إلا نحن، المكان الذي اعتدنا أن نختبئ فيه بعيدًا عن أعين الجميع، جلسنا أنا، وسعود، وإسماعيل نحتسي قهوتنا المعتادة في الصباح الباكر. هذا هو المكان الوحيد الذي يمكننا أن نتحدث فيه، دون أن يزعجنا أحد.

وبينما كنا نتبادل الأحاديث الطريفة، انقضت سارة على المطبخ كالعاصفة التي تأتي دون سابق إنذار، ملامح وجهها تغلي تماماً مثل القهوة التي يحضرها مجيد، وتكاد تحرق ألسنتنا كل صباح.

"ذلك المدعو حمد من إدارة المسئولية الاجتماعية..." بدأت سارة بنبرة تحمل في طياتها غضباً عارماً. "أرسل لي رسالة يقول فيها: مرحباً سارة، أرجو منك الاطلاع على التقرير وإبداء رأيك. رأيك مهم جداً بالنسبة لي و..." لم تكمل سارة ما قاله حمد، وقالت بغضب "وكأنني سأبتلع هذا الهراء بعد فعلته الأخيرة!"

"صباح الخير .. الحمد لله نحن بخير .. شكراً على سؤالك سارة" قلتها في محاولة لاستفزازها، لكن سارة لم تكن في المزاج الذي يسمح لها بالتجاوب.

أخرجت سيجارة من جيب عباءتها بارتباك واضح، وأشعلتها، وكأنها تبحث عن أي شيء يساعدها على التخفيف من حدة غضبها. أخذت نفساً عميقاً وزفرت بقوة، وكأنها تحاول أن تطرد كل ما في داخلها من غضب دفعة واحدة.

"أوه انظر إلى التنين الذي ينفث نيرانه .. يا لطيف! يبدو أن حمد سيحتاج إلى حمد الله على السلامة نهاية اليوم"، قال سعود في محاولة لتلطيف الجو. أخذت سارة سحبة أُخرى من السيجارة، وألقت نظرة قاتمة على سعود، لكنها لم تستطع كبح الابتسامة التي بدأت تتسلل إلى شفتيها.

"ذلك الواطي!" بدأت تتحدث مجددا "كنت أنا صاحبة الفضل في استجلاب هذه الجهة الحكومية من الأساس، بفضل علاقاتي الواسعة معهم .. قضيت شهراً كاملاً في جحيم العمل المكثف، غارقة في أكوام من التقارير والمستندات." قالتها وهي تذهب يميناً ويساراً وكأنها تحاول السيطرة على غضبها في هذا المكان الضيق.

"ذهب للاجتماع معهم، وكاد أن يدمر علاقتي مع الجهة الحكومية، وطبعاً، لم يخبرني أبداً بذلك الاجتماع، يتعمد إبعادي عن المشهد! لكن تواصلت معي تلك الجهة مباشرة، واشترطوا أن أكون حلقة الوصل بينهم وبين المنظمة لهذا المشروع".

"في يوم التدشين، رغم الإرهاق، شعرت بنوع من الراحة" نَفَضَتْ سيجارتها في مطفأة السجائر، وتابعت "قلت لنفسي، سينتهي هذا الجحيم أخيراً، وعلى الأقل سأكون قد أنجزت خدمة اجتماعية سيستفيد منها الآلاف من الأطفال، وليس مجرد شيء آخر يضاف إلى قائمة الـ"بيع بيع بيع!"

أخذت سارة سحبة طويلة من سيجارتها، وكأنها استعادة تفاصيل اليوم الذي جعلها تقف على حافة الغضب. "طبعاً، وكما يحدث دائماً، أحضرت إدارة العلاقات العامة بعض الموظفين، وجهزوا غرفة الاجتماعات وكأنهم يستعدون لحفل ملكي".

"جاءوا بالمصورين، بالطبع! لا تستطيع هذه المنظمة تمرير أي حدث دون إحداث زوبعة في الصحف وكأننا على وشك تغيير العالم! يقولون خدمة اجتماعية! هل تعتقد أن المنظمة تصرف هذه المبالغ الطائلة من أجل خدمة المجتمع حقاً؟ بالطبع لا، هذا كله مجرد واجهة، شيء يلمّع به المدراء أنفسهم".

نظرت سارة إلينا بعينين مليئتين بالسخرية، ثم تابعت بحماس "انفجرت الفلاشات من الكاميرات وكأنه حفل توزيع جوائز الأوسكار. طلبت من عماد، المصور، أن يرسل لي مجموعة الصور حتى أتمكن من الاستفادة منها مثلما يستفيدون هم! أردت أن أضعها في صفحة لينكد إن الخاصة بي، وأيضاً، لأرى شكلي في الصور قبل أن تُنْشَر في كل مكان. لا أريد أن أكون أضحوكة، فمجموعة بالونات البوتيكس التي حولي ألسنتهم حادّة!"

"بعد الاجتماع، جاءني حمد كالعادة، وطلب مني مراجعة نص الخبر مع إدارة العلاقات العامة. تعرفون كيف هم، يكتبون الأخبار بطريقة فاترة خصوصاً بعد أن استقال عبدالرحمن، ذلك الأعجوبة الذي كان يعرف كيف يحول أي خبر إلى قطعة أدبية. ولكن الآن؟ النتائج كارثية، والنصوص تبدو وكأنها خرجت من ورشة عمل للهواة!"

قال سعود بنبرة عملية، محاولاً إنهاء الدراما قبل أن تتسع أكثر "هاتِ خلاصة الحديث يا سارة، ليس لدينا اليوم بأكمله، إدارة المراجعة طلبت اجتماعاً يبدأ عند التاسعة، لمناقشة الإجراءات الجديدة الخاصة بفتح حسابات العملاء، لا يستيقظون إلا عندما تقع الفأس في الرأس. ثم يأتون وكأنهم أبطال المنظمة!"

"تفضل، الباب يُفَّوِتُ جملاً" قالتها سارة قبل أن تكمل "في صباح اليوم التالي، جئت باكراً بعد نومة هانئة" ثم رفعت سبابتها إلى السماء "جعله الله ينام في قدر مع أبي جهل في جهنم!". أخذت سارة رشفة من فنجان قهوتها وهي تستعد لرمي القنبلة. "فتحت الرسالة البريدية التي جاءت من التواصل الداخلي لأرى الخبر الذي كتبته بنفسي، وإذا بذلك الطُفَيّلي، وقد اقتص صورتي من الاجتماع ليبقى هو متصدراً في المجلس!"

"اقتص صورتك!" قلنا جميعاً بصوت واحد، غير مصدقين. سارة تحركت بحدة، واختفت وراء الباب لتوضيح المشهد، "اقتص وجهي ولم يظهر في الصورة إلا كتفي الأيسر". "يا له من سيكوباثي .. لقد تسلق على كتفك حرفياً" قلت لها.

"بل قُلْ أخذ سِلفي وهو على قمة كتف كلمنسارا" قالتها سارة قبل أن ينفجر الجميع من الضحك، حتى تحول الموقف من درامي إلى كوميدي.

رنّ هاتف سارة فجأة "أوه" قالت، وكأنها نسيت أمراً مهماً. نظرت إلينا باعتذار مختلط بالتوتر، "نكمل القصة لاحقاً" قالتها قبل أن ترد على الاتصال وهي تغادر المطبخ بسرعة. انصرف سعود معها وهو يقول "أنا ذاهب للتجهيز للاجتماع .. لا تتأخروا".

بقيت وإسماعيل وحدنا في المطبخ الصغير. نظرت إلى إسماعيل، الذي كان يشرب ما تبقى من قهوته ببطء، "قصة كلاسيكية للسيكوباثي مغتصب الأعمال" سَكَتُّ قليلاً، ثم أضفت "لكن صراحة، أشعر برغبة في أن أرفع له شماغي احتراماً، حركة الكتف هذه لا تأتي إلا من مُحَنَّك .. موجودة في الصورة، ولكنها في الوقت ذاته غير موجودة .. فنّان!"

لم يستطع إسماعيل المقاومة "هذه القصة تستحق أن تعرض على شبكة نتفلكس" قال وهو يضع فنجانه على الطاولة بابتسامة ماكرة. "فيلم وثائقي عن القتلة المتسلسلين، ولكن هذه المرة، عن مغتصب الأعمال المتسلسل. وفي حين يحتفظ القتلة بتذكار صغير من كل ضحية، يحتفظ هذا المغتصب بصور أكتاف الموظفين." نظر إليّ بابتسامة خبيثة منتظراً ردة فعلي، وكأنه يستمتع بإثارة الفكرة.

لم أستطع أن أحبس ابتسامتي، وأشرت إليه بعلامة المنسجم مع الفكرة، فتابع ببهجة وهو يقلد صوت المحققة "كان يقتصّ تلك الأكتاف من الصور، مثل جراحٍ بارع لا يترك أثراً. لقد استمر التحقيق عدة أعوام حتى وجدنا الخيط الذي قادنا إليه!".

عدلت من جلستي "الله .. الله على الفكرة يا إسماعيل!" قلت بلهجة مليئة بالحماس. تابع إسماعيل "ثم يأتي ذلك المشهد الذي يضع تلك الصور بعناية في صندوق خشبي قديم تحت سريره، صندوق مليء بصور الأكتاف التي تسلق عليها في الماضي، ليعيش مجددا .."

قاطعته "توقف يا ستيفن سبيلبرغ، حان وقت الاجتماع" ثم نهضت من مكاني وأنا أشعر أننا قد استنفدنا كل لحظة استرخاء قبل الدخول في دوامة العمل مرة أخرى.

سيبقى هؤلاء السفلة موجودين على أرض الواقع دائماً، ما لا يدركه هذا النوع من الناس هو أنه سيصل في يوم من الأيام إلى كتف زلق جداً. وإذا كان يستطيع تسلق جبل "كلمنسارا"، فإنه سيسقط حتماً في يوم من الأيام من قمة جبال الهيمالايا!

استمر، أعمل، ساعد الجميع، تعلم الدرس، واستمتع بالرحلة!

يوميات ٣٩٩: لم يبق إلا الكتف