"باذنجان 🍆"، ذلك المستجد، اسمه الحقيقي أصبح مجهولاً لدى الكثيرين، فقد التصق به لقب باذنجان، في إشارة واضحة إلى .. دعونا نقول نسبة إلى أنفه الكبير!
تخرَّج حديثاً من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. مثله مثل غيره من خريجي هذه الجامعة، يتبختر كأنه حصل على شهادته من جامعة هارفارد أو ستانفورد! يظن أن شهادته هذه ستمنحه حصانةً ضد الواقع. لا يدرك أن الكتب التي كان يعكف على دراستها في الجامعة، هنا في هذه المنظمة، تُستخدم فقط "لِلَّفِ السندوتشات!" كما يقول أبو عمر دائماً بابتسامته الماكرة."
إلى أين أنت ذاهب أيها الباذنجان؟" ناداه إبراهيم وهو يمر من أمامنا مسرعاً. "دقائق وأعود سريعاً" قالها على عجل وهو يتجه بخطوات متسارعة نحو "مركز الحدث"!
هكذا هم المستجدون، كلما سنحت لهم فرصة، ينطلقون إلى مخرج الطوارئ، منطقة التدخين. قد لا يكون ذلك المكان مزَّيناً بأعمال بيكاسو التي تتناثر في أروقة المنظمة، لكن الأحاديث التي تُدار فيه تُصنع فيه اللوحات الفنية بأصابع متعددة.
فمع كل نفث سيجارة، تُروى قصة جديدة، يرمي كل شخص قطعة صغيرة في فسيفساء ضخمة، وفي نهاية الجلسة، لا تستطيع أن تفرق بين الحقيقة ووحي الخيال. أحدهم يُقْسِم أنه رأى المدير يتسلل إلى مكاتب السيدات في منتصف الليل يَشْتَّمُ مقاعدها، والآخر يصرّ أن زميلتنا الجديدة تحمل في حقيبتها .. اللهم اغفر لي .. تحمل في حقيبتها .. لا لن أقول!
جدرانها الخرسانية الباردة قادرة على حفظ تلك الأسرار، فهي ليست كالبشر الذين يختنقون من حمل سِرٍ يتيم. من حسن الحظ أن هذه الجدران لا تنطق، وإلا لكانت أحرقت الأخضر واليابس، وربما وجدت نفسها بحاجة إلى الانضمام لبرنامج حماية الشهود الذي صدر حديثاً!
نظر حسن من فوق نظارته، قال ووجهه يعكس مزيجًا من الجدية والمكر "حتى هذا الباذنجان، الذي لم يلمس سيجارة قط في حياته، يهرع إلى هناك! لا يستطيع أن يفوت حلقة واحدة من مسلسل الدراما اليومي!".
لا أستطيع أن ألومهم، فالابتعاد عن هذا المكان يكاد يكون مستحيلاً، أليس كذلك؟ لا تنظر إليَّ وكأنك لم تدخل ذلك المكان الساحر، كلنا فعلنا ذلك، تُقَصُّ فيه أحدث الروايات تحت سحابات التبغ المحروق، وتتسرب الشائعات كما يتسرب الماء من الشقوق، والقليل من النميمة .. فقط "القليل"! وبالتأكيد الفضائح التي تحدث في الأروقة المظلمة، والتي تلتقطها الألسن كما تلتقط الغربان القطع اللامعة!
لا أحد يستطيع العمل في هذا المستنقع دون تلك البرامج الترفيهية! يظل الكثيرون يتحدثون عن الحاجة إلى برنامج مكون من اثنتي عشرة خطوة للاستشفاء من هذا الإدمان الذي بات جزءاً لا يتجزأ من حياة الموظفين هنا.
"الموظفون في مكاتبهم المكعبة يظنون أنهم في مأمن، لا أحد يراهم أو يسمعهم! لا يعلمون أن كل كلمة ينطقون بها تُنشر هناك" قالها إبراهيم، وهو يشير بيده نحو باب الطوارئ، "فضائح الجميع تجدها هناك كصحف التابلويت! حتى موظفي إدارة الالتزام الذين يظنون أنهم محصّنون، تجد أخبارهم في الصفحة الأولى! وبالرغم من ذلك هم آخر من يعلم!" أضاف بضحكة ساخرة.
"هذا المكان سيجُّر ذلك الصغير إلى الوحل!" قالها إسماعيل متشائماً كعادته. نظرنا جميعاً إليه، مشدوهين من نبرته الثقيلة. فقال خالد بابتسامة خبيثة "وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس يا إسماعيل؟ ألم تكن أنت أول من أحيا سوق عكاظ هناك؟"
رد عليه إسماعيل بقوة "وهل جلست يوماً مع الباذنجان واستمعت إلى أحاديثه؟ جاءني بالأمس وهو يشعر بفخر كأنه أصبح من أعضاء الماسونية! أخذ يقص عليَّ بعض التفاهات التي لا يتحدث بها سوى مراهقي سوق العمل! يحتاج ذلك الفتى إلى من يدفنه تحت جبل من المهام حتى لا يقرب ذلك المكان! يظن ذلك الأبله أن منطقة التدخين هي المسرح الكبير الذي تُحاك فيه المكائد وتُخطط المؤامرات!".
أبو أنس دائماً ما يقول بسخرية "تلك الأدخنة ليست سوى ستار يغطي على المكان الحقيقي حيث تدور الأحداث الكبرى! وفي الوقت الذي يكون الباذنجان في حضن أمه ليلاً تقرأ له قصة ما قبل النوم، تخرج الشياطين هنا لتبدأ عملها!"
أبو أنس مُحِقّ، فحين تنطفئ الأنوار، وتنتهي ساعات العمل الحقيقية التي ليس لها علاقة بساعة البصمة، يجتمع مدراء الإدارة الوسطى خلف الأبواب الموصدة. أولئك الذين تمتد أصابعهم بخفة لاعب شطرنج إلى من تحتهم، يحركون بها البيادق الصغيرة كيفما يشاؤون، وبيدهم الأخرى يربتون على ظهور من فوقهم .. وأحياناً، ينظفون الخراء الذي يتركونه لهم!
وبينما نحن نُطحن كالحب بين الرحى، مشغولون في تفاصيل العمل والتقارير والدوران بين غرف الاجتماعات كحِمار الساقية، يَعْقِد هؤلاء السفلة صفقات كأنها إحدى صفقات بيع الأسلحة في آخر الليل. اجتماع واحد يكفي لإرسال أحدهم إلى إحدى إدارات جوانتانامو .. إدارة الأرشيف إذا لم تكن تعلم ذلك!
أبو أنس، ذلك الصبور الذي جَمَّده أبو زياد في مرتبته منذ أن وطأت قدماه المنظمة قبل ست سنوات، دائماً ما يتغنى بمرارة "تلك هي الغرفة التي ترغب أن تكون فيها" يُسْهِب في وصف تلك الغرفة وكأنه يلقي قصيدة غزل في حسناء صعبة المنال "حيث صوت لوحة المفاتيح وهي تكتب الرسائل المليئة بالألغام، وتُقْلب فيها الطاولات في الّلحظات الأخيرة، والتي تُحاك فيها الشباك ببراعة سَجّاد إيراني، وتُنصب مقصلة الجرذان الكبيرة! آهٍ، لو كُنت معهم هناك، والله لا نجوت إن نجا منها أبو زياد!'"
عندما عاد الباذنجان من مركز الحدث واقترب من مكاتبنا، استقبله إسماعيل بنظرة حادة. قال له بلهجة أب وجد ابنه يتسلل إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل "اسمع، أيها الباذنجان! اترك عنك التسكع في أروقة المدخنين وركّز في عملك! كل هذا مجرد عبث، ومع الوقت سيتلاشى الدخان، وستتبدد النميمة. ما سيحدد مصيرك هنا هو إنجازاتك، والأهم من ذلك كله، علاقتك بتلك العصابة التي تخطط وراء تلك الأبواب" قالها وهو يشير إلى الغرفة المتوسطة في آخر الرواق.
"تذكر دائماً، وتأمل فيما سأقوله لك جيداً "قالها إسماعيل بجدية، "بينما أنت مسترخٍ في منطقة التدخين، منهمكاً في تشريح الآخرين واحداً تلو الآخر، هناك مجموعة أخرى تتجمع في ساعة الغداء" وأشار بإصبعه من النافذة لأحد المطاعم الإيطالية القريبة.
وبضحكة خفيفة، وكأنه يستمتع بمفارقة يعرفها جيداً، أردف "عرضك الأخير الذي قدمته أمام أبي خالد، ذلك العرض الذي خرجت منه وأنت ترقص وتظن أنك أبليت فيه بلاءً حسناً، أصبح طبق المقبلات على طاولة غدائهم! آه، ليتك تسمع قهقهتهم العالية وهم يقرمشونك!" انفجرنا جميعاً في ضحكات هستيرية، ضحكات كانت تخفي خلفها قلقاً من مصيرنا المشترك في هذه اللعبة القاسية!
ثم تراجع إسماعيل بكرسيه إلى الوراء، فاتحاً ذراعيه بتلك الثقة المبطنة بالسخرية "أما الطبق الرئيسي، فكان مهاراتك القيادية، والتي بلا شك، وجدوها ماسخة فأضافوا لها بعضاً من البهارات الكوميدية!"
"في المرة القادمة التي تعتقد فيها أنك في مركز الحدث، تذكر كلامي هذا جيداً!" ثم وكأنه أحس بتأنيب الضمير، أضاف "لا أقول لك هذا الكلام لأنك غِّر، بل لأنك تعمل في هذه المنظمة التي لا يسلم منها أحد! حتى أكبر زعماء المافيا هنا لهم نصيب من ذلك، بما فيهم هؤلاء الحثالة" مرر يده حولنا نحن أصدقاؤه، كأنما يشمل الجميع في دائرة من الشك واليقين، تاركاً وراءه ابتسامة واسعة.
مع نهاية خطبته، خَّيم صمت ثقيل لعدة دقائق، لم يجرؤ فيها أحد على النطق بكلمة .. فلم يعد هناك ما يُقال.