"هيه أحمد، انظر هناك عند الباب، غِرٌ جديد" قالها لي إسماعيل في صباح باكر بصوت يقطر شقاوة. ألقيت نظرة حيث أشار، فإذا بذلك المسكين يقف مرتبكاً كقِطٌ ضائع "يبدو أنه عالق ينتظر أن يُفتح له الباب .. بالتأكيد هذه إحدى ألاعيب رجل الأمن عصام، لن يترك حركاته الصبيانية، يرسل إلينا هذا الفرخ الصغير دون بطاقة دخول زائر!" قال إسماعيل وهو يحاول أن يستعطفني لأقوم له.
"لن أفتح الباب، هذه ليست وظيفتي!" قلت له.
ضحك إسماعيل، وهز رأسه بنوع من الشفقة، قال بنبرة مليئة بالتعاطف الساخر "يا للمسكين، ربما حضر لإجراء مقابلة شخصية. ألم يجد أفضل من هذه المنظمة التعيسة؟ لا بد أنه يائس .. أو أنه غضيب والديه!". رمقته بنظرة ساخرة، وقلت له "وهل هذا يعني أننا مغضوب علينا نحن أيضاً؟.
قام إسماعيل من مكتبه، واقترب مني "نحن يا صديقي، شربنا من نِيلِ هذه المنظمة، ونكاد نكون جزءًا من أثاث هذا الطابق .. وصلنا إلى النقطة التي أصبح فيها جنون هذا المكان مصدر متعة! انظر حولك"، قالها إسماعيل وهو يلوح بيده إلى بحر من المكاتب "استحلفك بالله، كيف لا تستمتع مع هذه الكوكبة من النجوم؟ كل يوم دراما جديدة، فيلم أكشن جديد!".
"خذ عندك السيد ترمب الخاص بنا" وأشار إلى مكتب أبي عمر "يثير المشاكل بين الإدارات وكأنه في برنامج تلفاز واقعي. وفي نهاية اليوم، نضحك جميعًا ونتخلص من إحباطاتنا وكأننا خرجنا للتو من مسرحية كوميدية!".
ثم أشار، بيده دون أدنى خجل إلى أحد المستجدين يقف بالقرب من الطابعة "لهذا السبب أشعر بالأسف تجاه هذا المستجد"، تابع إسماعيل بشفقة "كان الله في عونه! إنه لا يعرف ما تحمله له الأيام القادمة، كمية الهراء التي سيتحملها في فترة التجربة للأشهر الستة المقبلة ستحتاج إلى جَلَدِ بَغْلٍ أفغاني!".
بقدر ما كرهت الاعتراف بذلك، كان إسماعيل على حق. ولكن أحياناً أتساءل كيف يمكن لأي مخلوق أن يحافظ على سلامة عقله وسط كل هذا الجنون!
ساد صمت لعدة دقائق، توقف فيها إسماعيل عن الحديث ليغمس الشابورة بالشاي ويكمل إفطاره. "تفضل، انظر!" قالها بنبرة ساخرة. "سلطان يدور بالمستجد بين المكعبات المكتبية، ويريه مساحات العمل المفتوحة". كنت وقتها غارقًا في إحدى سلاسل الرسائل الإلكترونية، أكتب بشراسة ما كان على الأرجح الرد السابع والعشرون في سلسلة لن تنتهي أبدًا.
مساحات العمل المفتوحة، ندرك جميعاً أنها مصممة لكي تتمكن الإدارة من مراقبتنا. "لماذا لا يخرجون معنا هنا في أحد هذه الصنادق، هاه؟" يردد إبراهيم دائماً "دعونا نرى كيف يتعاملون مع هذه الفوضى بينما تنحشر مؤخراتهم الضخمة في هذه المكاتب الصغيرة والمتهالكة! لعن الله عارهم!".
حاول إسماعيل لفت انتباهي مجدداً، فقلت له "إسماعيل، ليس لدي وقت، نرى هذا المشهد كل يوم، ما الجديد؟" لكن إسماعيل، كما هو دائمًا، تجاهلني وقال "سلطان أدخله غرفة الاستراحة .. لقد وقع في الفخ!".
غرفة الاستراحة، محاولة يائسة لتقليد مكاتب جوجل العصرية. تخدع الجميع بلمعان مظهرها الخارجي وغرف الاستراحة، وأكواب القهوة، ومقاعد البين باجز وكبسولات النوم. حتى الجدران مزينة بملصقات العبارات التحفيزية من نوعية "أنت تستطيع" و "أنت تقدر" وكأن تلك الشعارات ستجعلنا ننسى هذا المستنقع الذي نحن فيه!
هذه كلها كما يقول عمر "قليلٌ من الأبلكاش للمشاهد أمام الكاميرا، أما خلف الكواليس، هناك حرب طاحنة!" حتى سارة تسخر وتقول "لدينا فريق من عمال النظافة في الخلف يمسحون بحيرات الدم ولمِّ الأشلاء المبتورة من أرض المعركة خلال دقائق!".
لا أدري من يخدعون؟ فهذا المكان أصبح مصمماً بالكامل لجذب الخريجين الجدد، هؤلاء المساكين الذين يعتقدون أن الحياة المكتبية ستكون مثل تلك المسلسلات الهزلية. تلك التي يكون فيها أكبر دراما في تاريخ الشركة عندما أخذ "هاني" سلطة "جميل" من الثلاجة المشتركة، ثم أصبحوا أصدقاء. كل هذا خيال!
الواقع هو أنه لو راودتك نفسك أن تأخذ عوداً من حزمة الحَبق المديني الخاص بأبي سعد، فسيكون ذلك أشبه بالانتحار الوظيفي! البيئة أشبه بفيلم إثارة وأكشن مستمر، لا تدري من أين سيأتي ذلك الوحش الذي يخطط لسرقة ترقيتك، أو اليوم الذي يثور فيه أبو خالد، أو أي أبو آخر في المنظمة ويبدأ في تشغيل الموسيقى استعداداً للعبة الكراسي!
وعندما أرى ذلك الملصق، ذو اللونين الأحمر والأزرق، مكتوب عليه "مكان رائع للعمل - معتمد من منظمة ثقافة مكان العمل العالمية" أشعر برغبة في أن أطبق يدي على رقبة ذلك الجاهل الذي أُرْسِل لتقييم هذا المكان! لا بد أنهم اقتادوه هو الآخر لغرفة الاستراحة، وزودوه بأنواع القهوة والمعجنات المجانية. وإذا أضفنا قيمة الشيك الضخم الذي منحته المنظمة للشركة المُعْتِمدة، فلن يكون هناك خيار آخر لديهم سوى استخراج ذلك الاعتماد. أما غير هذا، فلا بد أن يكون ذلك الشخص مطعوجاً ليعتمد مثل هذا المكان!
لا شك في أن إدارة الموارد البشرية لها ضلع في هذا الأمر. الجبناء، يأتون بهذه الشركات التي تأتي لتساعدهم على تلميع سمعتهم الملطخة بدلاً أن يتحركوا هم أنفسهم! كل هذا ليس إلا واجهة، الأمر أشبه بوضع طبقة جديدة من الطلاء على جدران مبنى متهالك والتظاهر بأن المشكلة قد حُلَّت!
عندما يصل رابط استطلاع رضا الموظفين إلى البريد الإلكتروني، أستطيع سماع صوت حسن في رأسي وهو يقول "إدارة المكائد البشرية، يرسلون هذه الاستبيانات فقط لتشعر بأن رأيك مهم. بينما في الواقع، تدفن البيانات الحقيقية في ثقب أسود رقمي داخل أحد الخوادم في مركز تقنية المعلومات، ولن يراها أحد!".
ثم يضحك حسن، ويضيف "سيجعلون إحدى الشقراوات من "الشركة الاستشارية" ترتب الشرائح، وتتلاعب بالأرقام قليلاً، ثم تعرضها على المدراء. بالطبع، ستشمل بعض الاقتراحات التجميلية التي لا تسمن ولا تغني من جوع!".
أريد أن لا أصدقه، ولكن بعد خمس سنوات في هذا المكان، أعلم جيداً أن هذا هو الواقع. إذا لم يفعلوا ذلك، وكشفوا عن حقيقة هذه المكان، فسوف يغرقون في مبادرات هم في غِنى عنها.
هؤلاء الملاعين! يعلمون جيداً أن المدراء ليس لديهم الوقت لهذا الهراء، فسهم المنظمة ينزلق في هاوية لا نهاية لها، وفي الوقت الحالي، بل دائماً، لا يوجد شيء أهم من البيع!
قبل أن أنضم إلى هذه المنظمة، في المقابلة الشخصية قبل خمس سنوات، سألت عن بيئة العمل، كنت أتظاهر بالاهتمام. موظف الموارد البشرية الذي قابلني، هو بدوره أيضاً كان يتظاهر. بالتأكيد لم يكن ليسرد لي الحقيقة. يعرف أني كنت في حاجة، شحّاذاً ألهث خلف الراتب، حتى لو كانت بيئة العمل عبارة عن حظيرة!
في المرة القادمة عندما يحاول أحدهم تزيين الوضع، ويخبرك أن الشركة ضمن أفضل بيئات العمل السعودية، هناك احتمال ضئيل أن يكون كلامه صحيحاً، ولكن تحسباً، أصدر شخرة كبيرة داخل عقلك، وقدم له ابتسامة مؤدبة وجهز نفسك ذهنيًا للعرض المرعب الذي ربما يختبئ خلف ذلك الأبلكاش!